مكانة مكة وفضلها
ما أكسب هذه البقعة عمقًا تاريخيًّا، ومكانة سامقةً، ارتباطها الوثيق بأعظم أركان الإيمان؛ فمن فضائلها ما لها تعلق بالله جل جلاله وملائكته وكتبه ورسله؛ وقد ورد في نصوص الكتاب والسنة، والكتب السماوية، والكتب التاريخية، ما يبين وشائج الصلة بينها، مما يستدعي أن نقف عند هذه البقعة وقفة تعظيم وإجلال، وبيان ذلك في المباحث الآتية:
مكانتها عند الله عز وجل:
1- مكة خير البلاد وأحبها إلى الله:
وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تل صغير بمكة يقال له (الحَزْوَرَة) واستقبل مكة ينظر إليها نظرة وداع، فقال مخاطبًا لها ولمن حولها:
«والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله». (الترمذي 3925).
وفيه دليل على أن مكة أفضل من المدينة المنورة، وأنّ بعض بقاع الأرض يحبها الله تعالى أكثر من بعض.
قال ابن القيم رحمه الله: (فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده، وأحبَّها إليه، ومختاره من البلاد، لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه،
فقال تعالى:{وهذا البلد الأمين} (التين: 3).
وقال تعالى:{لا أقسم بهذا البلد} (البلد: 1). وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني). (زاد المعاد 1/47 – 48)
2- أقسم الله عز وجل بها في كتابه:
أ)قال الله تعالى:{لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد} (البلد:1،2).
ب)قال تعالى:{وهذا البلد الأمين} (التين: 3).
والمجيء باسم الإشارة (هذا) -والله أعلم- لفائدتين:
الأولى: التعظيم.
الثانية: الحضور. حيث نزلت السورة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا البلد.
3- جعل الله لها من الأسماء ما لم يجعله لغيرها من المدن:
أسماء مكة - شرّفها الله - في كتابه الكريم:
أ ) مكة:قال تعالى:{ ببطن مكة } (الفتح: 24).
ب ) بكة:قال تعالى:{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } (آل عمران:96).
ج ) أم القرى:قال تعالى:{ لتنذر أم القرى ومن حولها} (الشورى : 7).
د ) مَعَاد (بفتح الميم والعين):قال تعالى:{ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} (القصص:85).
هـ ) البلد:قال تعالى: { لا أقسم بهذا البلد } (البلد:1)
و ) البلد الأمين:قال تعالى:{ وهذا البلد الأمين} (التين: 3).
4- جعل الله تحريم مكة يوم خلق السماوات والأرض:
قال تعال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} [النمل:91].
ومعنى {حرَّمها} أي: جعلها حرامًا، والحرام الممنوع.
والمراد من تحريم البلدة: تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر.
فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاعتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة.
فتحريم المكان: منع ما يضرّ بالحال فيه . وتحريم الزمان، كتحريم الأشهر الحرم: منع ما فيه ضر للموجودين فيه). (التحرير والتنوير 20/56-57).
أول بلدة على وجه الأرض ذكرها الله وخصها بأحكام قبل أن يسكنها أحدٌ من البشر كانت هذه البلدة المحرمة، فإن تحريمها كان يوم خلق السماوات والأرض، وستظل محرمة إلى قيام الساعة،
قال صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ هذا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يوم خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). (صحيح البخاري 3017، ومسلم 1353).
5- جعل الله بمكة أول بيت وُضع لعبادته:
في مكة أول مسجد وُضع في الأرض،
فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال:قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام». قال: قلت: ثم أيّ ؟ قال: «المسجد الأقصى». قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلِّه، فإن الفضل فيه». (صحيح البخاري (3366) واللفظ له، ومسلم (520).
قال علي رضي الله عنه : «كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله» (الأزرقي 1/61، والحاكم في المستدرك 2/292، وصححه بن حجر في فتح الباري 6/470).
وهذا يدل على أن المراد بالبيت: بيت العبادة لا مطلق البيوت، وإلا فالبيوت المبنية للسكن كانت موجودة قبل الكعبة المشرفة.
6- اختار الله مكان البيت في الأرض حيال بيت آخر في السماء:
ربط الله تعالى مكة بالغاية التي خلق الناس لأجلها، وهو: عبادة الله وحده؛ فلذا جاء اختيار مكان هذا البيت حيال بيتٍ آخر في السماء تأكيدًا لهذا المعنى.
فقد أقسم الله سبحانه في كتابه بقوله:(والبيت المعمور) [الطور:4]
وجاء في وصفه أنه:
أ- بيتٌ في السّماء.
ب- بحيال الكعبة من فوقها.
ج- حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض.
هـ- يُصلّي فيه كلّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدًا.
( الأزرقي في أخبار مكة 1/ 49، وانظر: السلسلة الصحيحة 477).
وذهب بعض العلماء إلى أنّ المراد بالبيت المعمور في الآية: البيت الحرام في الأرض.
قال ابن القيم: ولا ريب أنّ كلا منهما بيت معمور: فهذا معمور بالملائكة وعبادتهم، وهذا معمور بالطائفين والقائمين والركع السجود، وعلى كلا القولين فكلٌّ منهما سيّد البيوت. (التبيان في أيمان القرآن ص 402).
فائدتان:
الأولى: جاء في الحديث (صحيح مسلم 162) أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، فلِمَ خُصَّ إبراهيم عليه السلام بمجاورة البيت المعمور الذي في السماء؟
قال ابن كثير: لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل. (تفسير القرآن العظيم 4/ 240).
الثانية: حُرمة المسافة بين البيتين في الأرض والسماء.
صحَّ عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفا أن حرمة البيت المعمور في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، وجاء في رواية عبدالله بن عمرو: (والحرم حرمٌ بحياله إلى العرش) (شعب الإيمان للبيهقي 3706).
فيستفاد منه، ومن القاعدة المشهورة: الهواء له حكم القرار، أن المسافة من الحرم في الأرض، إلى الحرم الذي في السماء السابعة؛ بل إلى العرش = محظورة على الكافر محاذاتها، مهما علا وارتفع.
7- جعل الله مكة أول مكان لارتباط الأرض بنور السماء والوحي الإلهي:
بعد أن انطفأ نور الوحي، وبُدِلت شريعة الله في الأمم السابقة، ساد ظلام الخرافات والوثنيات، شعّ أول نور في هذا الوجود من مكة بقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} إلى قوله تعالى: {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق:1-5]
وحيًا سماويًا إلى من أرسله الله هدى للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن تخصيص مكة بهذا النور الإلهي فيه تشريف لها.
قال ابن كثير: (فأول شيء [نزل] من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم). (تفسير القرآن العظيم 8/ 437).
8- القرآن الكريم نزل أكثره في مكة:
بعد تعداد السور المكية التي نزلت فيها - وعليه استقرت الرواية من الثقات، وهي خمس وثمانون سورة. (البرهان في علوم القرآن 1/ 194).
وذكر السيوطي أن ما نزل بالمدينة باتفاق عشرون سورة، وما اختلف فيه بين المكي والمدني اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق. (الإتقان في علوم القرآن 1/ 28).
وعليه تكون السور المكية اثنان وثمانون سورة على هذا القول.